فصل: باب إحياء الموات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/

 باب إحياء الموات

 وسئل شيخ الإِسلام ـ رَحِمهُ اللّه ـ عن حكم البناء في طريق المسلمين الواسع، إذا كان البناء لا يضر بالمارة ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن ذلك نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يبني لنفسه، فهذا لا يجوز في المشهور من مذهب أحمد‏.‏ وجوزه بعضهم بإذن الإمام‏.‏وقد ذكره القاضي أبو يعلى، ومن خطه نقلته، أن هذه المسألة حدثت في أيامه، واختلف فيها جواب المفتين، فذكر في مسألة حادثة في الطريق الواسع‏:‏ هل يجوز للإمام أن يأذن في حيازة بعضه، بينا أن بعضهم أفتي بالجواز، وبعضهم أفتي بالمنع واختاره القاضي، وذكر أنه كلام أحمد؛ فإنه قال في رواية ابن القاسم‏:‏ إذا كان الطريق قد سلكه الناس فصار طريقا‏.‏ فليس لأحد أن يأخذ منه شيئًا قليلا، ولا كثيرًا‏.‏ قيل له‏:‏ وإن كان واسعا مثل الشوارع ‏؟‏ قال‏:‏ وإن كـان واسعا‏.‏ قـال‏:‏ وهو أشد ممن أخذ حدًا / بينه وبين شريكه؛ لأن هذا يأخذ من واحد، وهذا يأخذ من جماعة المسلمين‏.‏

قلت‏:‏ وقد صنف أبو عبد اللّه بن بطة مصنفا فيمن أخذ شيئًا من طريق المسلمين، وذكر في ذلك آثارا عن أحمد، وغيره من السلف، وقد ذكر هذه المسألة غير واحد من المتقدمين، والمتأخرين من أصحاب أحمد، منهم الشيخ أبو محمد المقدسي‏.‏ قال في المغني‏:‏ وما كان من الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران، فليس لأحد إحياؤه، سواء كان واسعا، أو ضيقا، وسواء ضيق على الناس بذلك، أو لم يضيق؛ لأن ذلك يشترك فيه المسلمون، وتتعلق به مصلحتهم، فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع مع ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد، ولا يضر بالمارة؛ لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلم يمنع كالاجتياز‏.‏

قال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق‏:‏ دعوه فهو له إلى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏منى مناخ من سبق‏)‏‏.‏ وله أن يظلل على نفسه بمالا ضرر فيه من بارية، وتابوت، وكساء، ونحوه؛ لأن الحاجة تدعو اليه من غير مضرة فيه، وليس له البناء؛ لا دكة ولا غيرها؛ لأنه يضيق /على الناس، وتعثر به المارة بالليل والضرير بالليل والنهار، ويبقي على الدوام، فربما ادعي ملكه بسبب ذلك، والسابق أحق به ما دام فيه‏.‏

قلت‏:‏ هذا كله فيما إذا بني الدكة لنفسه، كما يدل عليه أول الكلام وآخره؛ ولهذا علل بأنه قد يدعي أنها ملكه بسبب ذلك، مع أن تعليله هذه المسألة يقتضي أن المنع إنما يكون في مظنة الضرر، فإذا قدر أن البناء يحاذي ما على يمينه وشماله، ولا يضر بالمارة أصلا، فهذه العلة منتفية فيه، وموجب هذا التعليل الجواز إذا انتفت العلة، كأحد القولين اللذين ذكرهما القاضي‏.‏

وفي الجملة في جواز البناء المختص بالباني الذي لا ضرر فيه أصلا بإذن الإمام قولان‏.‏

ونظير هذا إذا أخرج روشنا أو ميزابا، إلى الطريق النافذ، ولا مضرة فيه‏.‏ فهل يجوز بإذن الإمام ‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ يجوز كما اختاره ابن عقيل، وأبو البركات‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز، كما اختاره غير واحد، والمشهور عن أحمد تحريما أو تنزيها، وذكر أبو بكر المروزي في ‏[‏كتاب الورع‏]‏ آثارا في ذلك‏.‏ منها ما نقله المروزي عن أحمد أنه سقف له دارا، وجعل ميزابها إلى الطريق، فلما أصبح قال‏:‏ ادع لي النجار حتي يحول الماء /إلى الدار‏.‏ فدعوته له فحوله، وقال‏:‏ إن يحيي القطان كانت مياهه في الطريق، فعزم عليها، وصيرها إلى الدار‏.‏ وذكر عن أحمد أنه ذكر ورع شعيب بن حرب، وأنه قال‏:‏ ليس لك أن تطين الحائط؛ لئلا يخرج إلى الطريق‏.‏ وسأله المروزي عن الرجل يحتفر في فنائه البئر، أو المحرم للعلو قال‏:‏ لا، هذا طريق المسلمين، قال المروزي‏:‏ قلت‏:‏ إنما هو بئر يحفر ويسد رأسها، قال‏:‏ أليس هي في طريق المسلمين ‏؟‏‏!‏ وسأله ابن الحكم عن الرجل يخرج إلى طريق المسلمين الكَنِيف، أو الاصطوانة، هل يكون عدلا‏؟‏ قال‏:‏ لا يكون عدلا، ولا تجوز شهادته‏.‏ وروي أحمد بإسناده عن على‏:‏ أنه كان يأمر بالمثاعب، والكُنُف تقطع عن طريق المسلمين‏.‏ وعن عائذ بن عمرو المزني قال‏:‏ لأن يصب طيني في حجلتي، أحب إلى من أن يصب في طريق المسلمين‏.‏ قال‏:‏ وبلغنا أنه لم يكن يخرج من داره إلى الطريق ماء السماء، قال‏:‏ فرؤي له أنه من أهل الجنة، قيل له‏:‏ بم ذلك‏؟‏ قال‏:‏ بكف أذاه عن المسلمين‏.‏

ومن جوز ذلك احتج بحديث ميزاب العباس‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن يبني في الطريق الواسع مالا يضر المارة لمصلحة المسلمين، مثل بناء مسجد يحتاج اليه الناس، أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه، أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد؛ مثل حانوت ينتفع به المسجد، فهذا النوع يجوز في مذهب /أحمد المعروف‏.‏ وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة، ولكن هل يفتقر إلى إذن ولي الأمر‏؟‏ على روايتين عن أحمد‏.‏ ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعا في جواز هذا النوع‏.‏ ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا‏.‏

والمسألة في كتب أصحاب أحمد القديمة والحديثة، من زمن أصحابه، وأصحاب أصحابه، إلى زمن متأخري المصنفين منهم، كأبي البركات، وابن تميم، وابن حمدان، وغيرهم‏.‏

وألفاظ أحمد في ‏[‏جامع الخلال‏]‏ و‏[‏الشافي‏]‏ لأبي بكر عبد العزيز، و ‏[‏زاد المسافر‏]‏ و‏[‏المترجم‏]‏ لأبي إسحاق الجوزجاني، وغير ذلك‏.‏ قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي‏:‏ سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غني، وبهم إلى أن يكون مسجدا حاجة، هل يجوز أن يبني هناك مسجد‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس إذا لم يضر بالطريق‏.‏

و ‏[‏مسائل إسماعيل بن سعيد‏]‏ هذا من أجل مسائل أحمد، وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه ‏[‏المترجم‏]‏ ، وكان خطيبا بجامع دمشق هنا، وله عن أحمد مسائل، وكان يقرأ كتب أحمد اليه على منبر جامع دمشق، فأحمد أجاز البناء هنا مطلقا، ولم يشترط إذن الإمام‏.‏ وقال له محمد بن الحكم‏:‏ تكره الصلاة في المسجد/ الذي يؤخذ من الطريق‏.‏ فقال‏:‏ أكره الصلاة فيه إلا أن يكون بإذن الإمام، فهنا اشترط في الجواز إذن الإمام‏.‏

ومسائل إسماعيل عن أحمد بعد مسائل ابن الحكم؛ فإن ابن الحكم صحب أحمد قديما، ومات قبل موته بنحو عشرين سنة‏.‏ وأما إسماعيل فإنه كان على مذهب أهل الرأي، ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث، وسأل أحمد متأخرا، وسأل معه سليمان بن داود الهاشمي، وغيره من علماء أهل الحديث‏.‏ وسليمان كان يقرن بأحمد حتي قال الشافعي‏:‏ ما رأيت ببغداد أعقل من رجلين‏:‏ أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي‏.‏

وأما الذين جعلوا في المسألة رواية ثالثة، فأخذوها من قوله في رواية المروزي، حكم هذه المساجد التي قد بنيت في الطريق أن تهدم‏.‏ وقال محمد بن يحيي الكحال‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ الرجل يزيد في المسجد من الطريق‏؟‏ قال‏:‏ لا يصلي فيه‏.‏ ومن لم يثبت رواية ثالثة، فإنه يقول‏:‏ هذا إشارة من أحمد إلى مساجد ضيقت الطريق، وأضرت بالمسلمين، وهذه لا يجوز بناؤها بلا ريب؛ فإن في هذا جمعا بين نصوصه، فهو أولي من التناقض بينها‏.‏

وأبلغ من ذلك أن أحمد يجوز إبدال المسجد بغيره للمصلحة، كما فعل ذلك الصحابة‏.‏ قال صالح بن أحمد‏:‏ قلت لأبي‏:‏ المسجد يخرب /ويذهب أهله‏:‏ تري أن يحول إلى مكان آخر‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان يريد منفعة الناس فنعم؛ وإلا فلا‏.‏ قال‏:‏ وابن مسعود قد حول المسجد الجامع من التمارين، فإذا كان على المنفعة فلا بأس، وإلا فلا‏.‏ وقد سألت أبي عن رجل بني مسجدا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر، قال‏:‏ إن كان الذي بني المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص، أو يكون موضعه موضعا قذرا، فلا بأس‏.‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي عن القاسم، قال‏:‏ لما قدم عبد اللّه بن مسعود إلى بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر، قال‏:‏ فنقب بيت المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر‏:‏ أن اقطع الرجل، وانقل المسجد واجعل بيت المال في قبلة المسجد؛ فإنه لن يزال في المسجد مصل‏.‏ فنقله عبد اللّه، فخط له هذه الخطة‏.‏ قال صالح‏:‏ قال أبي‏:‏ يقال‏:‏ إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة، فحول عبد اللّه بن مسعود المسجد موضع التمارين اليوم، في موضع المسجد العتيق‏.‏ يعني أحمد‏:‏ أن المسجد الذي بناه ابن مسعود كان موضع التمارين في زمان أحمد، وهذا المسجد هو المسجد العتيق، ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة‏.‏

وقال أبو الخطاب‏:‏سئل أبو عبد اللّه‏:‏يحول المسجد‏؟‏ قال‏:‏إذا كان ضيقا لا يسع أهله، فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه‏.‏/وجوز أحمد أن يرفع المسجد الذي على الأرض، ويبني تحته سقاية لمصلحة، وإن تنازع الجيران‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ نحن شيوخ لا نصعد في الدرج، واختار بعضهم بناءه‏.‏ فقال أحمد‏:‏ ينظر إلى ما يختار الأكثر‏.‏ وقد تأول بعض أصحابه هذا على أنه ابتدأ البناء، ومحققوا أصحابه يعلمون أن هذا التأويل خطأ؛ لأن نصوصه في غير موضع صريحة بتحويل المسجد‏.‏

فإذا كان أحمد قد أفتي بما فعله الصحابة حيث جعلوا المسجد غير المسجد؛ لأجل المصلحة، مع أن حرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أحب البقاع إلى اللّه مساجدها، وأبغض البقاع إلى اللّه أسواقها‏)‏، فإذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة، فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولي والأحري؛ فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات، وكلاهما منفعة مشتركة‏.‏

/

 فصل

والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه، فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، مثل تزويج الأيامي، والنظر في الوقوف، وإجرائها على شروط واقفيها، وعمارة المساجد، ووقوفها؛ حيث يجوز للإمام فعل ذلك، فما جاز له التصرف فيه جاز لنائبه فيه‏.‏

وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم وغيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك‏.‏ وهذا إذا كان البناء في الطريق، وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء؛ مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏

وكذلك فناء الدار، ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار‏؟‏ أو حق من حقوقها‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مملوك لصاحبها، وهو مذهب مالك، والشافعي‏.‏ حتي قال مالك في الأفنية التي في الطريق‏:‏ يكريها أهلها، فقال‏:‏ إن /كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا، ولم يمكنوا‏.‏ وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أري به بأسا‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ وهذا يدل على أنه كان يري الأفنية مملوكة لأهلها؛ إذ أجاز إجارتها، فينبغي ألا يفسد البيع بشرطها‏.‏ قال‏:‏ والذي يدل عليه قول الشافعي‏:‏ أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها، إلا أنه لا يجوز بيعه عنده‏.‏ وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق‏.‏

والذي ذكره القاضي، وابن عقيل، وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثاني، وهو أن الأرض تملك دون الطريق، إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره، ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره، وهذا مذهب أحمد في الكلأ النابت في ملكه أنه أحق به من غيره، وإن كان لا يملكه‏.‏‏.‏‏.‏ على قول الجمهور‏:‏ مالك والشافعي وأحمد‏.‏‏.‏‏.‏

فإذا كان البناء في فناء المسجد والدار، فإنه أحق بالجواز منه في جادة الطريق، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أن أبا بكر الصديق ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ اتخذ مسجدا بفناء داره، وهذا كالبطحاء التي كان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ جعلها خارج مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمن يتحدث، ويفعل ما يصان عنه المسجد‏.‏ فلم يكن مسجدا، ولم يكن كالطريق بل‏.‏‏.‏‏.‏ اختصاص بالمسجد، فمثل هذه/ يجوز البناء فيها بطريق الأولي، والبناء كالدخلات التي تكون منحرفة عن جادة الطريق، متصلة بالدار والمسجد، ومتصلة بالطريق، وأهل الطريق لا يحتاجون اليها، إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة، وهي تشبه الطريق الذي ينفذ المتصل بالطريق النافذ، فإن هذا كله أحق من غيرهم‏.‏

ولو أرادوا أن يبنوا فيه، ويجعلوا عليه بابًا جاز عند الأكثرين؛ لما تقدم‏.‏ وعند أبي حنيفة ليس لهم ذلك، لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول اليه عند الحاجة‏.‏ والأكثرون يقولون‏:‏ حقهم فيه إنما هو جواز الانتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه، كما يجوز الانتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها، كالصلاة فيها، والمقيل فيها، ونزول المسافر فيها؛ فإن هذا جائز فيها‏.‏ وفي أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء‏.‏

وذكر أصحاب الشافعي في الانتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين، وذكر أصحاب أحمد في الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها، وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله؛ فإنه يجوز أكل الثمرة في مثل ذلك، فكيف بالمنافع التي لا تضره، ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ في الأرض المملوكة، فيدخلها بغير إذن صاحبها، لأجل الكلأ‏.‏ وإن كان من أصحابه من منع ذلك‏.‏

/وأما الانتفاع الذي لا يضر بوجه، فهو كالاستظلال بظله، والاستضاءة بناره، ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن، فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة؛ ولهذا يفرق بين الثمار التي ليس عليها حائط، ولا ناطور، فيجوز فيها من الأكل بلا عوض، مالا يجوز في الممنوعة، على مذهب أحمد، إما مطلقًا، وإما للمحتاج، وإن لم يجز الحمل‏.‏

وإذا جاز البناء في فناء الملك لصاحبه، ففي فناء المسجد للمسجد بطريق الأولي، وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب، بل قد يكون من جميع الجوانب، قال القاضي وابن عقيل وغيرهما‏:‏ إذا كان المحيي أرضًا كان أحق بفنائها، فلو أراد غيره أن يحفر في أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك، وكذلك ذكر أبو حامد والماوردي وغيرهما من أصحاب الشافعي‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 باب اللّقطَة

 سئلَ شيخ الإِسلام ـ رَحمِهُ اللّه ـ عن رجل وجد فرسا لرجل من المسلمين مع أناس من العرب، فأخذ الفرس منهم، ثم إن الفرس مرض بحيث أنه لم يقدر على المشي، فهل للآخذ بيع الفرس لصاحبها ‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، نعم يجوز، بل يجب في هذه الحال أن يبيعه الذي استنقذه لصاحبه، وإن لم يكن وكله في البيع، وقد نص الأئمة على هذه المسألة، ونظائرها، ويحفظ الثمن‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل لقي لقية في وسط فلاة، وقد أنشد عليها إلى حيث دخل إلى بلده‏.‏ فهل هي حلال ‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يعرفها سنة قريبا من المكان الذي وجدها فيه، فإن لم يجد بعد سنة صاحبها، فله أن يتصرف فيها، وله أن يتصدق بها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن الدراهم المنثورة يجدها الرجل ‏؟‏

/فأجاب‏:‏

يعرفها حولا، فإن وجد صاحبها، وإلا فله أن ينفقها، وله أن يتصدق بها‏.‏

 وسئل عن رجل وجد لقطة وعرف بها بعض الناس بينه وبينه سرا أياما، ولها عنده مدة سنين‏.‏ فما الحكم فيها ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، لا يحل له مثل هذا التعريف، بل عليه أن يعرفها تعريفا ظاهرا، لكن على وجه مجمل، بأن يقول‏:‏ من ضاع له نفقة، أو نحو ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن حجاج التقوا مع عرب قد قطعوا الطريق على الناس، وأخذوا قماشهم، فهربوا وتركوا جمالهم والقماش فهل يحل أخذ الجمال التي للحرامية والقماش الذي سرقوه‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، ما أخذوه من مال الحجاج فإنه يجب رده اليهم إن أمكن؛ فإن هذا كاللقطة تعرف سنة، فإن جاء صاحبها فذاك، وإلا فلآخذها أن ينفقها بشرط ضمانها‏.‏ ولو أيس من وجود صاحبها فإنه يتصدق به، ويصرف في مصالح المسلمين‏.‏

وكذلك كل مال لا يعرف مالكه من الغصوب والعواري والودائع، وما أخذ من الحرامية من أموال الناس، أو ما هو منبوذ من أموال الناس، فإن هذا كله يتصدق به، ويصرف في مصالح المسلمين‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ لما جاء التتار، وجفل الناس من بين أيديهم، وخلفوا دوابًا، وأثاثًا من النحاس، وغيره، وضمه مسلم، وطالت مدته، ولم يظهر له صاحب /ولا منشد، وهو يستعمل الدواب والمتاع‏.‏ فما يصنع ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز له أن يستعمله، ويجوز له أن يتصدق به على من ينتفع به‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن سفينة غرقت في البحر، ثم إنها انحدرت وهي معلومة إلى بعض البلاد‏.‏ وقد كان فيها جرار زيت حار، ثم إن أهل القرية تعانوا على المركب حتي أخرجوها إلى البر، وقلبوها، فطفي الزيت على وجه الماء وبقي رائحا مع الماء، ثم إن أهل القرية جاؤوا إلى البحر فوجدوا الزيت على الماء، فجمع كل واحد ما قدر عليه، والمركب قريبة منهم، فهذا الزيت المجموع حلال أم حرام‏؟‏ ومركب رمان غرقت، وجميع ما فيها انحدر في البحر، فبقي كل أحد يجمع من ذلك، ولم يعرف له صاحب، فهل ما لا يعرف صاحبه حلال ‏؟‏ أم حرام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الذين جمعوا الزيت على وجه الماء قد خلصوا مال المعصوم من التلف، ولهم أجرة المثل، والزيت لصاحبه‏.‏ وأما كون الزيت لصاحبه فلا أعلم فيه نزاعا، إلا نزاعا قليلا؛ فإنه يروي عن الحسن بأنه قال‏:‏ هو لمن خلصه‏.‏

/وأما وجوب أجرة المثل لمن خلصه، فهذا فيه قولان للعلماء‏.‏ أصحهما وجوب الأجرة، وهو منصوص أحمد وغيره؛ لأن هذا المخلص متبرع‏.‏ وأصحاب القول يقولون‏:‏ إن خلصوه للّه تعالى فأجرهم على اللّه تعالى، وإن خلصوه لأجل العوض فلهم العوض؛ لأن ذلك لو لم يفعل لأفضي إلى هلاك الأموال؛ لأن الناس لا يخلصونها من المهالك إذا عرفوا أنهم لا فائدة لهم في ذلك، والصحابة قد قالوا فيمن اشتري أموال المسلمين من الكفار‏:‏ إنه يأخذه ممن اشتراه بالثمن؛ لأنه هو الذي خلصه بذلك الثمن، ولأن هذا المال كان مستهلكا لولا أخذ هذا، وتخليصه عمل مباح، ليس هو عاصيا فيه، فيكون المال إذا حصل بعمل هذا، والأصل لهذا، فيكون مشتركا بينهما، لكن لا تجب الشركة على المعين، فيجب أجرة المثل، ولأن مثل هذا مأذون فيه من جهة العرف؛ فإن عادة الناس أنهم يطلبون من يخلص لهم هذا بالأجرة‏.‏

والإجارة تثبت بالعرف والعادة، كمن دخل إلى حمام، أو ركب في سفينة بغير مشارطة، وكمن دفع طعاما إلى طباخ وغسال بغير مشارطة ونظائر ذلك متعددة‏.‏

ولو كان المال حيوانا فخلصه من مهلكة ملكه، كما ورد به الأثر؛ لأن الحيوان له حرمة في نفسه، بخلاف المتاع، فإن حرمته لحرمة صاحبه، فهناك تخليصه لحق الحيوان، وهو بالمهلكة قد ييأس صاحبه، /بخلاف المتاع؛ فإن صاحبه يقول للمخلص‏:‏ كان يجوز لك من حين أن أدعه، والحق فيه لي، فإذا لم تعطني حقي لم آذن لك في تخليصه‏.‏

وأما الرمان إذا لم يعرف صاحبه فهو كاللقطة، واللقطة إن رجي وجود صاحبها عرفت حولا، وإن كانوا لا يرجون وجود صاحبه، ففي تعريفه قولان، لكن على القولين لهم أن يأكلوا الرمان أو يبيعوه، ويحفظوا ثمنه، ثم يعرفوه بعد ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ قدسَ اللّه روحه ـ عمن وجد طفلا، ومعه شيء من المال، ثم رباه حتي بلغ من العمر شهرين‏.‏ فجاء رجل آخر لترضعه امرأته للّه‏.‏ فلما كبر الطفل ادعت المرأة أنه ابنها، وأنها ربته في حضن أبيه‏.‏ فهل يقبل قولها ‏؟‏ وهل يجب عليها أن تعطي الرجل الثاني ما أنفقه عليه‏؟‏ ويلزم الرجل الأول ما وجد مع ابنه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان الطفل مجهول النسب، وادعت أنه ابنها، قبل قولها في ذلك ويصرف من المال الذي وجد معه في نفقته مدة مقامه عند الملتقط‏.‏ واللّه أعلم‏.‏